الصالون الادبي

الهِجَاء الذي خَلَّده التَّاريخ

إنها حكاية الشَّاعِر الطَّموح الذي رأى في نفسهِ خ

إنها حكاية الشَّاعِر الطَّموح الذي رأى في نفسهِ خليفة الشُّعراء وأحقّ الناس بالرِّيادة، والملك الذي كان يحكم بقُوة السَّيف لا بقُوّة النَّسب. هذه القصة، التي تُعدُّ من أشهر القِصص في تاريخ الأدب العربي، تجسدت فيها كل معاني الفخر والأمل والخيبة، وخُلّدت في أبيات من الشِّعر لا تزال تُردَّد لغاية اليوم.

وَصل أبو الطيّب المُتنبي إلى مصر في عام 346 هـ، وكان في أوج شهرته وشعريته. وكان يسعى إلى منصبٍ رفيعٍ يمكنه من تحقيق طموحاته السياسية. ورأى في كافور الإخشيدي، حاكم مصر القوي، الفرصة المثالية. فكافور، الذي كان في الأصلِ عبدًا أسودًا، قد وَصَل إلى الحُكم بذكائه وحنكته، لكنه كان يفتقر إلى النسب الشريف الذي كان المتنبي يقدّسه.

في بداية الأمر، انهمر المتنبي على كافور بوابل من المدح الذي وصل إلى حد المبالغة والإطراء. كان المتنبي يعتقد أن هذا المدح سيفتح له أبواب السلطة، فأنشدَ قَصائدَ يُمجّد فيها كافور ويرفعهُ إلى مَصافِ المُلوك العِظام، على الرّغم من احتقاره الدّاخلي له. فبَرَز من أبيات المَديح: 

       “فلا تَلُحْهـا بأَطْرافِ السِّيَاطِ، فَمَـا حَاجَاتُكُمْ فـِي مـَنَامٍ فـِي دُجَى الفَلَكِ”

       “جَـزَى اللَّهُ خَيْرًا عَنْ مَوَاسِي عَـدُوِّهِ مَلِيكَ الوَرَى، فَقَـدْ أَلْقَـى عَنْـهُ الشَّرَكِ”

 

في هذه الأبيات، يمدح المُتنبي كافور على أنه “مليك الورى” ويهجو أعداءه، في محاولة لكسب ودّه. وظلَّ المُتنبي يمدح كافورًا لمدَّة طويلة، ولكن دون أن يحصل على ما يطمح إليه، وهو ولاية أو منصب يليق به.

 

بدأ المتنبي يدرك أن وعود كافور كانت مجرد كلام، وأن كافور لا ينوي منحه أي منصب رفيع. فكافور، بذكائه، كان يخشى طُموح المُتنبي، ويعلَم أن هذا الشاعر الذي يحمل في شعره روح الثورة والقيادة لا يُمكن أن يكون مُجرد تابِع. بدأ الشكُّ يدخل قَلب المُتنبي، وتحوّل المدح المُبالغ فيه إلى استياءٍ صامت.

وبعد ثلاث سنوات من الانتظار، قرَّر المُتنبي الرَّحيل عن مصر. وشَعَر بالخَيبة العُظمى، ليسَ فقط من كافور، بل من نفسه التي تنازلت عن كبريائها ومَدَحت مَن لا يستحق. كانت هذه النُّقطة هي بداية تحوّل العلاقة من مَدحٍ إلى هِجاء لاذِع.

قبل أن يهرب المتنبي من مصر، كتب قصائده الساخرة التي تحمل في طياتها الهجاء المبطن، مما يدل على استياءه المتزايد. ففي إحدى قصائده، قال:

 

“لا تشتر العبد إلا والعصا معـه إن العبيد لأنجـاس مناكيـدُ”

 

لم يكن هذا البيت هجاءً مباشرًا لكافور، بل كان تلميحًا واضحًا يحمل معاني الاحتقار للعبد الذي أصبح ملكًا. وكان المتنبي يلمح إلى أن كافور، بكونه عبدًا في الأصل، لا يمكن أن يتخلص من طبيعته. وبعد أن تمكن من الهرب من مصر سرًا، انطلق المتنبي في هجاءٍ صريح ومُباشر لكافور، فكتب قصائده الخالدة التي أظهرت كل ما كان يكتمه من غضب واحتقار. ومن أشهر قصائده في الهجاء تلك التي قال فيها:

 

“أَبا المِسكِ! هَل قَولٌ بَراءٌ مِنَ الخَنَى؟ لَمّا نُبَرِّئُ فيكَ القَولَ مِنَ الكَذِبِ”

 

وهُنا يهجو كافور باسمه، ويَسخر منه لأنه ينسب نفسه للمسك وهو في الأصل “عَبد”. ثم يواصل المتنبي هجاءه اللاذع، متناولًا نسب كافور ولونه الأسود، فيقول:

 

“وَمَا تُخَضِّبُ مِن سَوادِكَ بَطْنَهَا تَلَدُ السَّوَادَ الَّذِي تُخَفِّيهِ بِلَمْسِ”

وفيها سخرية من نسب كافور ولونه، وكأنه يقول له أنك مهما حاولت أن تخفي أصلك، فإنه ظاهر فيك. وأشهر أبيات الهجاء على الإطلاق، تلك التي لخص فيها المتنبي شعوره بالخيبة والندم، ووضع كافور في أدنى المراتب:

 

“وَمَا يَقَعُ القَـوْلُ إِلَّا عَـلَى الدُّوَلِ وَلَا تَحْـفِـلُ الدَّهْرُ إِلَّا بِمَـا تَلِي”

“مَا قَابلَ الدَّهْرُ إِلَّا سَاعَةً بِسَاعَةٍ وَلَا يَذْكُرُ العُمْرَ إِلَّا بِالَّتِي سَلَفَتْ”

في هذه الأبيات، يصف المتنبي كافور بأنه “دويلة” وليس “دولة”، وأنه لا يستحق الذكر في صفحات التاريخ، وأن فترة حكمه كانت مجرد لحظة عابرة. بالمجمل، لا تزال قصة المتنبي وكافور محفورة في الذاكرة الأدبية، وتأثيرها يتجاوز حدود الزمن. فلقد تحوّلت إلى رمز لصراع الحكمة مع السلطة، وللكبرياء الذي لا يمكن أن يرضخ للواقع. إن هذه القصة تظهر بوضوح أن الكلمة قد تكون أقوى من السيف، وأن الأدب قد يخلد ما لا تستطيع أن تخلده القُوة. 

اترك تعليقا