في سعي الإنسان للعشق الإلهي
تُعد رواية “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة أليف شافاق من الأعمال الأدبية التي حظيت بشعبية واسعة وتأثير كبير، فهي ليست مجرد قصة حب، بل هي رحلة روحانية وفلسفية تتنقل بين الماضي والحاضر، وتستمد قيمتها الأدبية من عدة جوانب:
تتميز الرواية ببناء سردي فريد من نوعه، حيث تتداخل قصتان في آن واحد: الأولى، قصة إيلا روبنشتاين في العصر الحديث: وهي ربة منزل أمريكية تعيش حياة روتينية، تقع في غرام كاتب صوفي يُدعى عزيز زاهارا، وتتغير حياتها تمامًا بعد قراءتها لروايته التي تتحدث عن قصة شمس التبريزي وجلال الدين الرومي. أما القصة الثانية، فهي قصة شمس التبريزي وجلال الدين الرومي في القرن الثالث عشر: وهذه هي الرواية ذاتها التي تقرأها إيلا. وتُعرض فيها العلاقة الروحية بين المعلم الصوفي شمس التبريزي وتلميذه الرومي، وكيف حولت صداقتهما العميقة الرومي من عالم دين تقليدي إلى شاعر ومتصوف عظيم.
هذا التوازي بين القصتين يسمح لشافاق باستكشاف نفس المواضيع، مثل الحُب والروحانية والتغيير والبحث عن الذات، لكن من منظورين مختلفين، مما يمنح الرواية عمقًا وتنوعًا.
تمتاز الرواية بقيمتها الأدبية والفلسفية العميقة، حيث تتناول الرواية مواضيع إنسانية خالدة تتجاوز الثقافة والدين. فهي ليست فقط عن الحب بين رجل وامرأة، بل عن العشق الإلهي والحب بين الأصدقاء، وحب الذات. كما تتناول الفلسفة الصوفية بطريقة مبسطة. فقدمت شافاق الفلسفة الصوفية المعقدة بأسلوب قصصي بسيط وميسر. من خلال “قواعد العشق الأربعون” التي يمليها شمس التبريزي، تقدم الكاتبة للقارئ المبادئ الأساسية للتصوف، مثل أهمية القلب على العقل، وقبول القدر، وأن طريق العشق هو الطريق إلى الله.
يُعتبر جلال الدين الرومي (1207 – 1273) أحد أعظم شعراء الصوفية والفلاسفة في التاريخ الإسلامي. لم يكن مجرد شاعر يكتب عن العشق الإلهي، بل كان فيلسوفًا روحيًا يسعى إلى فهم العلاقة بين الإنسان والخالق من خلال العشق، وترك وراءه إرثًا ضخمًا من الشعر والحكمة التي أثرت في الملايين حول العالم.
تتركز فكرة العشق الإلهي التي آمن بها شمس التبريزي وجلال الدين الرومي كطريق للوصول إلى الحقيقة. بالنسبة له، فإن الحب ليس مجرد عاطفة، بل هو القوة المحركة للكون بأكمله، وهو الجسر الذي يربط بين الروح الفردية والروح الإلهية. كان يؤمن بأن كل شيء في الوجود، من أصغر ذرة إلى أوسع مجرة، يتوق إلى العودة إلى أصله الإلهي.
وهنا، تكمن التجربة الروحانية الداخلية على حساب الطقوس الدينية الشكلية. فالإيمان الحقيقي يكمن في القلب، وليس في القواعد الصارمة. لهذا السبب، كانت تعاليم الرومي والتبريزي تجذب أتباعًا من مختلف الأديان. لقد كان التصوف منفتحا على جميع الأديان والثقافات. فأشهر أقوال الرومي مثلا: “تعالَ، تعالَ، مَهما كنتَ… تَعالَ حتى لو كُسِرت تَوبتكَ ألف مَرّة، تَعالَ. فبابُنا ليسَ بَاب يَأس”. هذه الدعوة المفتوحة للتسامح والاحتواء هي جَوهر الفلسفة التي ترفض التعصب وتدعو إلى المحبة والاحتواء.
استخدم جلال الدين الرُّومي مفهوم المرآة كثيرًا في شعره، فكان يؤمن بأن الكون هو مرآة تعكس صفات الله، وأن الإنسان يجب أن ينظر إلى داخله ليرى هذه الصِفات. إن البحث عن الله ليس رحلة خارجية، بل هو رحلة داخلية لاكتشاف الذات. وآمن الرومي بأن روح الإنسان هي جزء من الروح الإلهية. وفي قصيدته الشهيرة “النّاي”، يصف النّاي الذي انفصل عن قطعة القصب الأصلية وشوقه للعودة إليها، وهو رمز لشوق الروح البشرية للعودة إلى أصلها الإلهي.
وتُعد رحلة إيلا روبنشتاين رمزًا لكل شخص يشعر بأنه عالق في حياته. حيث تظهر الرواية أن التغيير ممكن في أي عمر، وأن العشق الحقيقي قد يكون هو المحفز للخروج من الروتين إلى اكتشاف الذات.
نجحت إليف شافاق في إعادة إحياء الشخصيات التاريخية المهمة مثل شمس التبريزي وجلال الدين الرومي، وتقديمها لجمهور جديد لم يكن على دراية بها. فجعلت من قصة الرومي وشمس التبريزي مصدرًا للإلهام والتحفيز الروحي. في المحصلة، تكمن القيمة الأدبية لـ”قواعد العشق الأربعون” في قُدرتها على دمج التاريخ والفلسفة والروحانية في قصة واحدة آسرة. إنها ليست مُجرَّد رواية تُقرأ، بل هي تجربة روحية تدعو القارئ للتأمل في حياته وعلاقته بالعشق الإلهي والوُجود.