أنفاس عالية تنبع من ركضٍ مُستمرّ، كركض فـي غابة تتّسع كلّما اقتربت من النهاية. كان لا بدّ من البكاء فـي هذه الأجواء الصّعبة، فأنْ تقف عاجزًا وحيدًا ولا أحد يسمعك، هُنا تكمن المصيبة.
على الشّاطئ كانت نهاية طريقي، أو رُبّما هي بداية النّهاية، ها أنا أقف أمام أمواج البحر الهَائِجة، والخوف يَتملّكني والحِيرة تتَلاعب بي.
ماذا سأفعل الآن؟ أين سأذهب!
كانوا كثيرين، جميعهم يتخبّط لأجل العيش، لأجل إيجاد مكان يأوي فـيه نفسه، يأوي فـيه أطفال تبكي، أطفال فقدت الطّفولة قبل أن تملكها.
تَجمّعنا جميعنا عند الشاطئ كي نركب قوارب النّجاة ونُهاجر فقدتُ زوجي جرّاءَ حربٍ داميةٍ، منذ تلك اللحظة الّتي فارقني بها، ما زالت كلماته الأخيرة تخترق مسمعي، اتركي هذه البلاد يا حوا، لا تبقيْ هنا… هاجري لعلّك تجدين حياةً أفضل فـي مكان أكثر أمنا لك ولطفلنا الّذي لم يولَد، اعتني به وبنفسك، آسف لأنّني لم أستطع خلق حياة أفضل. آسف لأنّني لا أملك الحياة! لفظ أنفاسه الأخيرة ودّعتُه وافترقنا إلى الأبد.
حقيقةً وأقولها باختناق، ما زالت كلماته ترنّ فـي أذني كأنّني أسمعها الآن، وقلبي يعتصر ألمًا!
عرفتُ حينها أنّي سأواجه أكثر ما يخشاهُ البشر، وهو أن لا أجد مكانًا يأويني.
تحرّكوا، تحرّكوا!
صرخ رجلٌ يناهز الأربعين من عمره، وهو يُؤشّر بيده
للمُهاجرين بالإسراع لرُكوب القارب.
ركبتُ القارب والخَوف يتملّكني، وبتردّد لا يوصَف، غير أني تنفّستُ الصّعداء، وتوكّلتُ على الله.
حانَ وقت الانطلاق، الانطلاق إلى حياة جديدة مُبهمة، لا أعرف ما الّذي تخبّئه لي الأيام القادمة، أيّ حياة تنتظرني! لكنّي أعرف شيئًا واحدًا فقط، وهو أنّني سأتخبّط ليعيش ولدي حياةً كريمة، سأفتح بيدي هاتين صفحة بيضاء، لي وله! لن أسمح أبدًا باستمرار حياة التّشرد هذه!
مرّت ثلاث ساعات مُنذ انطلاقنا فـي البحر، كان كلّ شيء من حولي هادئًا، وفـي داخلي عاصفة لا تهدأ!
انطلقت سبعة قوارب، كان فـيها الكبار والصّغار، منها عائلات كاملة ومنها من بقي وحيدًا مثلي تمامًا فتساءلت: أيّ جحيم هذا الّذي أوصلني إلى هذه الحالة؟!
وحيدة وسط البحر، بين أناس لا أعرفهم، هنا طفلة تبكي خوفًا، ورجل يصيح بقسوة: «جذّفوا، جذّفوا…» وامرأة كبيرة فـي السّن لا أعرف كيف ستتحمّل هذه الأجواء الّتي لا تعرف الرّحمة. آه! كثيرون ممّن يحملون الكثير من الآلام والأحزان، كلّ له قصّته، فـي دواخلهم حروب مُشتعلة لا تعرف الهدوء، يبحثون عن السّلام والأمان، يتشبّثون ببصيص من أمل يكاد لا يُرى، ما أقسى هذه اللحظات! يسيرون نحو المجهول، ولا أحد يعرف أينجو أم يغدو طعامًا للسمك والحيتان! كمْ من وطن قذف أحبابه فـيك أيها البحر الغامض؟! كمْ من قلوبٍ أُطفأتَ! كمْ من دماءٍ أرقتَ؟! أيها البحر الكبير، يا أيها البحر الصّامت، تكلّم، تنفّس، إحكِ لي كمْ حبًّا قتلتَ؟! كمْ طفلًا احتضنتَ؟!
بدأتْ الشّمس تغرب رويدًا رويدًا، شعرتُ أنّ كلّ شيءٍ بدأ يزداد صعوبةً، حلَّ الظّلام، لم أتخيّل نفسي يومًا أنّني سأكون هُنا، جالسة فـي جوف قارب مُهترئٍ، وسْط بحرٍ ظلامُه حالك، وأمواجه لا نعرف إلى أين تأخذنا. إنّه الضّياع، التشرّد، الموت المحتوم…
طوال جُلوسي وأنا أُراقب من حولي، فقد بدا الخوف يملأ العيون والملامح، فالموت قادمٌ للجميع، يتحرّك ويقترب… يكشّر عن أنيابه، إلهي متى نصل إلى برّ الأمان؟!
نظرتْ إليَّ امرأة كبيرة فـي السن، تُناهِز السّبعين من العمر.
إلى أين وجهتك يا ابنتي؟
لا أعرف. أجبتها باختناق.
يبدو أنّك حامل، أليس لديك أحد؟
لا، إنّني وحيدة، فقدتُ زوجي… معي طفلي الذي لم يولَد بعد. لم أتمالك نفسي، فغرقتْ عيوني فـي دموع امتزجت مع أمواج البحر فزادته هيجانًا…
هوّني عليكِ يا ابنتي، إن شاء الله تقومين بالسّلامة، وتجدين حياة مطمئنّة.
تأمّلتها وقد اعتلَت وجهي ابتسامة صفراء… فأيّ حياة أفضل من الوطن؟! تنفّستْ…
ماذا عنك يا خالة؟
بعد أن لقي أبنائي حَتفهم فـي الحرب، لم يبقَ لي سوى ابني الّذي يعيش فـي أوروبا مُنذ سنين، إنّني مُتّجهة إلى حيث يعيش، علّني أجده. أخفضتْ رأسها بخيبة. ربّتُّ على كتفها لعلّي أخفّف عنها شيئًا من الألم.
جلست حوا تتأمّل حولها وهي تضع يدها على بطنها بحنان، وإذ بها فجأة تخرج ورقة من جيبها وتشرع فـي الكتابة…
«بُنيّ العزيز!
إنّه يوم آخر فـي البحر، بعد أن فقدنا أبسط أنواع الحُقوق، فقدنا بيوتنا، طعامنا، ملابسنا، وطننا… تمنّيتُ لو أنّني أكتب لك كلامًا آخر، لو أنّك تستقبل حياة أفضل تكون عادلة ومُنصفة، سأُحدّثك يومًا عن وطن جريح، يئِنّ ويصيح! وطنٌ يلقي أحبابه فـي الجّحيم ولا يرحم، وطنٌ بلا وطن!»
غابت الشّمس وغاب معها الدّفء، الأحوال بدأت تزداد صعوبة، الرّياح تعصف من كلّ الجهات، الأمواج هائجة، الأمطار تتساقط، وكأنّ العواصف قد أصابها الجُّنون! والبطانيات مُبلّلة، كل شيء بدأ يخرج عن السّيطرة، كلّ شيء لم يعد طبيعيًّا! كانت ليلة قاسية! قاسية إلى حدّ لا يوصَف.
كنتُ أرى وأسمع كلّ شيء، أشعرُ كما لو أنّني معهم فـي الخارج، أحسستُ بنبضات قلب أمّي وهي تخفق خوفًا وفزعًا، رأيتُ كم كانت تتخبّط من أجل العيش… من أجل أن تُنقذني. هل هذه هي الحياة التي سأخرج إليها!؟ لم أفهم بعد ما هو الوطن؟! هل هو طعام أم شَراب؟! أم عاصفة هَوجاء كالّتي تعصف بأمّي؟! فهمتكِ يا ماما وأنت تتحدثين وتتألّمين لكنني لم أفهم بعد ما معنى وطن؟! أصغيت إلى قلب أمي كان يرتجف ويزداد نبضًا! فألقيتُ رأسي فـي الرّحم وبدأت أفكرُ بكلمة وطن! أيكون الوطن كرَحم أمي؟!
بدأتُ أنشغل بمُراقبة النّاس الذين كانوا فـي القارب، كنتُ أراقب ملامحهم بدقّة، الخوف الذي يسطع فـي عيونهم، ارتجاف شِفاههم، التّمسك بقارب لا يكاد يحمي نفسه من الغرق، خوف وارتباك، صراخ وألم…
بعد عاصفة استمرت طوال الليل، طلع الصّباح، وهدأت الأمواج… وإذ بأحدهم يصيح فجأة: بُشرى… بُشرى… إنّها اليابسة، لقد اقتربنا من اليابسة! عندما سمع الجّميع كلماته فرحوا وبدأوا يصفّقون بحماس.
الحمد لله، لقد عاد الأمل!
بعد نصف ساعة وصلنا إلى اليابسة، وكلّ واحد ذهب فـي طريقه، منهم من يعرف إلى أين وجهته، ومنهم من لا يعرف، مثلي تمامًا.
جلستُ على الشّاطئ اتأمّله وأتساءل: قبل بضع ساعات فقط كنتُ بين أمواجك الهائجة، كنتُ خائفة، لا أعرف إن كنتُ سأبقى على قيد الحياة، ها أنا أجلس على شاطئك، لقد نجوت!
تنهّدتُ وقلت: كلّه بفضل الله.
مَشيتُ بخطى ثابتة، ها أنا أذهب لأصنع حياة جديدة. سأمضي فـي طريق جديد مُشرق وفـي كلّ خطوة فـيه سأزرع زهرة صفراء… سأدعوها زهرة الأمل. لكن رغم كل هذا التفاؤل، الحقيقة ستبقى مُؤلمة فثمّة أشياء لا تنسى ولا تُعوّض… تمامًا كالوطن!
الوطن؟! أمّي ما الوطن؟!